

برعي محمد
في يوم الخميس 22 مايو 2025، استقبلت خشبة باب الماكينة جمهورها بإبداع استثنائي جديد خاص بالموسيقى الأندلسية، وذلك احتفاءً بمرور 44 سنة على إدراج مدينة فاس ضمن التراث اللامادي للعالم من قبل منظمة اليونيسكو، وذلك بحضور 44 من كبار الموسيقيين برئاسة الأستاذ محمد بريول والشيخ علي الرباحي.
وقد عرضت فعالية “الليلة الصوفية” الخاصة بفن الملحون، بجنان السبيل، ضمن فعاليات الدورة 28 لمهرجان الموسيقى العالمية العريقة، مجسدةً شعار الدورة “انبعاثات، من الطبيعة إلى المقدس”. وقد سلط هذا الإبداع المتفرد الضوء، من خلال الألحان والصور، على الموضوع الرئيسي والمحوري لنسخة 2025، وتناول موضوع “الانبعاث” كدعوة صريحة لإعادة التجديد الثقافي، والروحي، والفني، الذي تكرسه المملكة المغربية من خلال تنوع أنماط موسيقية ذات دلالة إبداعية.
فالموسيقى الأندلسية ليست مجرد فن، بل هي رحلة روحية تعكس عمق القيم والتقاليد الثقافية، حيث امتزجت التأثيرات العربية والإسبانية لتشكيل نظام موسيقي متكامل يعبر عن عمق المشاعر الروحانية. ونفس الشيء ينطبق على فن الملحون، الذي ليس مجرد موسيقى وألحان، بل هو تراث شعري وموسيقي يطرح سؤال منظومة القيم ويعكسها. هو يبرز التعايش الذي سادا خلال فترات مختلفة في الأوساط المغربية، إذ ينبعث التعايش وتنبعث الروح القيمية والأخلاقية، حتى تصل إلى حالة من الثمالة العاطفية، مستمدة من عمق الحضرة المغربية ذات الدلالة الرمزية، ليعشقه الجمهور العاشق لهذا النوع من الإبداع.
يا من لكلّ الكمال حازَ *** وفي العلى بالسّبق فازا
يا قطب هذا الوجود يا من *** قد حازَ في الرّتبة امتيازا
حقيقة الكون عنك كانت *** والحق لا يشبه المجازا
أنت المرجى لكل قصد *** وبعض جدواك لا يوازى
حاشاك أن تضيق جياها *** يا خير من بالجميل جازى
هكذا بدأت كواكب الأبراج في ترانيم كوامل الأدرج، حيث تعكس الموسيقى هذا النمط من الانعكاس لما هو طبيعي ومقدس، إذ تعبر عن أصوات الطبيعة كما نسمعها، وترنو إلى محاكاة الأصوات الكونية التي قد تكون ملاذًا للسمو النفسي، حيث تتداخل الألحان الفلسفية المعقدة والإيقاعات القديمة التي تعكس عمقها التاريخي.
بهذا النمط، تصبح الموسيقى وسيلة للتواصل مع كل العوالم الداخلية والخارجية، وتاريخيًا، تصل العاشق من خلال هذه الأنماط إلى الإنشاد والذكر الصوفي، آملاً في الوصول إلى حالة من الصفاء الروحي.
وتعود مدينة فاس العريقة، من خلال ما سبق، إلى جوهرها وتوهجها، والذي أعطاه لها هذا الحدث الفريد من نوعه، مهرجان الموسيقى العالمية العريقة. ففي عالم يواجه أزمات وصراعات وتطاحنات متتالية، اختارت المدينة المغربية أن تكون منارة للأمل، وأن تعيد إظهار سحرها الأندلسي الخالد.
إنه انبعاث من فاس، أرض المغرب، حيث تنبض الحياة بين أزقتها وحيها القديمة التي تأسست في القرن السابع الميلادي، وتنتشر إلى جميع بقاع العالم.
بهذه الطريقة، تبقى الموسيقى الروحية، في عمومها، والأندلسية على وجه الخصوص، جزءًا من رحلة الإنسان في البحث عن المعنى، حيَّةً بتاريخ طويل من التفاعل بين الإبداع والتأمل الروحي.